مقتطفات
من روايتي الأولى انتحار مؤجل:
هي قصة وفاء مع
فارس
حديث مع النفس لفارس:
الصمت..هذا الحديث الذي يدور بيننا بلا صوت ، يخترق علينا وحدتنا ، يحملنا معه حينما يختفي الكلام ويرحل بنا خارج المكان ، ثم يأتي بنا سريعًا إلى تلك الطاولة التي تقف حاجزًا علينا بين الحلال والحرام..عدت من رحلتي المكوكية حول الذاكرة وتخاريف العمر المنصرم بين الأمس واليوم ، ومقارنتي العبثية بين اليوم والغد ، كان لصوتها المطعم برائحة المسك الذي ما برح يفوح من مكانها ، وكأنه يخبرني بجودته حتى من بعيد ، عدت مع صوتها حاملًا يقين العاشقين ، بأن هذا الصوت يطوي بين نغماته قصة طويلة وأغاني حزينة.
حديث
فارس لوفاء:
وفاء..الحياة تسرق منا بعض الأشياء الجميلة ، وتترك قبائحها فوق رفوف الانتظار ، وعندما نجلس على أريكة نهاية العمر نتطلع إلى ذلك الزمن الغابر فينا منذ سنوات ، نتمنى لو أننا عدلنا هنا وغيرنا هناك لكننا نظل نحمل حسراتنا حتى نموت ، فمثلًا خوفنا في بعض الأحيان مبرر، فعندما نخاف من الموت في مقتبل العمر ، فهذا له ما يبرره ولكن ما لا أستطيع تبريره هو خوفنا من الموت ونحن نقطف آخر ورقة من خريف العمر ، قد يكون التبرير الوحيد الذي يتعلقون به هو الخوف من المجهول ، ولكن من المجهول أيها الإنسان قد أتيت!
حديث وفاء.. لفارس:
· أنا يا فارس ، أنشودة
حزن تركتها طفلة قبل أن تموت كمد ويتم دفنها بعيد عن مدافنهم حتى لا تتسخ أجساد
موتاهم العفنة ، لا تزال صرخات الموءودة تسألهم ، بأي ذنب قتلت ، حتى عندما أنام الآن
وبعد كل هذه السنين العجاف لا تزال أحلامي تحلم بأحلام لم تكتمل في صغرها ، يهزني
صوتها الصغير وبكاءها الذي لا يزال صداه ينتقل من مكان إلى مكان لكنه لا يتوه عن
مسامعي.
· كان صوتك يدعوني
للحياة،وكلماتك زرعت فيني بذوراً من الثقة،بعد
أن حصد الزمان سنابلها،وحرقت الأيام بساتين زهورها, كنت قد أنهيت معاركي مع الحياة،وسلمت
رايتي البيضاء للقدر،وأخذت أرسم نهاياتي فوق نطع الخوف..
·
الشموع التي لا تنطفئ هي
التي تبقى مشتعلة في صدري..
· لقد هتكت بيدي ستائر
صمتي حتى تحطمت جميع أحلامي،ومشيت أجر خطواتي نحو الموت..
· عند غروب الشمس في كل
يوم،تتوقف رغبتي في الحياة،ويتجدد الصمت فيني وتنتحر الأحلام..
· كلما أردت أن أخلد
للنوم،أسمع صوت الخوف في كنائس وحدتي يصلي..أنا من يحتفل الحزن فيني كل عام،ويستوطن
الهم غربتي؟
· أخاف الرحيل،ومع هذا
لا أفتح حقائبي عندما أعود من رحلتي،استعدادًا للسفر مرة أخرى،دائمًا ما يتواعد
الحزن خلسة مع القدر ضدي..
· صار الخوف يشرب من نهر
أفراحي،حتى لا يتبقى فيه غير بقايا لا تروى عطشي،ذلك الخوف الذي يحكي قصص الأبطال
للموت،أنا الأنثى التي اختطف التعب منها،سنوات عمرها،وعند رحيل العمر،بزغ فجرها.
· أنا في كل ذكرى ميلادي،يحتفل
الحزن بإطفاء شموع الفرح فيني..
· ما أبشع الماضي عندما
يوجه سلاحه صوب رأسك في انتظار متى ترغب في التحرر منه،عندها يطلق عليك رصاصة
القسوة!
· أنا يا فارس..بقايا
أحلام تحطمت فوق حصير الحياة..أمل مات قبل صاحبه المريض..أنا تلك الأوراق التي
سقطت من الشجرة جراء عبث الريح..أنا تلك الطفلة الملقاة على عتبات السبيل..أنا ذلك
المقتول الذي كان يحمل بين يديه تعويذة النجاة..أنا حروف لم تكتمل لتصبح كلمة،ولم
تترك حتى تعود إلى قطيع الحروف،ولدت من رحم الألم،ومن مرارة القسوة خرجت إلى العلن،أحمل
نعش ذاكرتي وامشي،أشتاق إلى أيام الطفولة،أتذكرها في كل وقت.
· كنت في عهد الصبا،أحمل
أحلامي فوق أكتاف العمر،وسنوات المجهول،وحدهم الأطفال يا فارس من يعرفون طعم
السعادة،حتى ولو في أشياء صغيرة،أو تافهة في عيوننا،نحن من يستخف بتلك الطهارة لأننا
نفتقدها،ولتلك البراءة لأننا عرفنا حقيقة الحياة ، وبأنها ليست بتلك البساطة.
· من أين أبدأ حكايتي،ومن
أين أنتهي ؟ وأنا التي أستجدي من الصمت بعض الحروف،ومن الآخرين بقايا الكلام..أقف
دائمًا عند آخر الطريق،وأنتظر من القدر المساعدة,أحلامي لا تعمر طويلًا،فمنذ خرجت
لهذه الدنيا وهي تموت قبل أن تمشي فوق مسرح أوهامي,أنا من يعرف موت الفرح،واغتيال
الحلم من بين العيون,من يغتالون أحلامك ليسوا دائمًا أعدائك،فمن اغتال حلمي كانت
أقرب المقربين لي،بل والسبب بعد الله في وجودي,كانت تخنق كل حلم قبل أن يولد،تمكنت
من أن تكتم أنفاسي حتى لا أحلم إلا بعلمها,كانت الحارس الذي عينه القدر لمطاردة
أحلامي الصغيرة،خوفًا من أن تكبر في يوم من الأيام.
·
حتى عند بلوغي سن
الزهور،ذلك العمر الذي تحن إليه كل البنات،كان معرفتي بأنني أصبحت امرأة بمحض
الصدفة،كنت مثل البلهاء في مدينة الأذكياء،الكل يعرف ما يصيبهن إلا أنا،أحاول أن
أوقف ذلك النزيف القادم من المجهول،كان ذلك النزيف نذير شؤم بالنسبة لي،وبالنسبة
لهم كان إعلانا بأن الزرع قد حان وقت حصاده.
· أتعلم ( يافارس)اكره الوقوف!الوقوف
يعني الانتظار،والانتظار يعني الموت..نحن جميعًا نولد في انتظار الموت،أتذكر أني
كثيرًا ما ذهبت إليه! إلى ذلك الموت،لكن للأسف في كل مرة أذهب إليه لا أجده،لابد
وأنه كانت لديه رحلة إلى أخذ أنفاس المنتظرين غيري،أنا من تزعم أنها ذهبت إليه
أكثر من مرة،كأنه كان يتهرب مني،حتى هذا الموت الذي يخافه كثير من الناس،لا أخافه
، بل سوف أنتصر عليه ! حيث لن يجد فيني غير جسد منهك،وأحلام ميتة ? لذة الموت
بالنسبة إليه،أن يأتي إليك وأنت محمل بالتفاؤل.. الأحلام،الآمال،كل تلك الأشياء،هي
آلاته التي يعزف عليها صخب ألحانه.
· عندما أحاول أن أستعيد
ذكريات تلك الليلة،والتي يسميها البعض بليلة العمر،أما أنا فلا زلت أسميها ليلة
نهاية العمر،أجدني في آخر الحضور، كأنني المرأة التي لم تدعى لذلك العرس ، حتى أني
لا أجد وفاء داخل أزقة الماضي ، وكأنها طيف إنسان حضر ثم اختفى , كانت ليلة لم يتم
فيها اغتيال الحلم فحسب ، بل اغتيلت الروح معها ، في تلك الليلة بدأت مراسم
الإعدام وحضر جميع الشهود ، كان الحضور من النساء ، الكل كان يزهو ويرقص..قرع طبول
أفراحهم تصل إلى مسامعي الآن وكأنها نذير موت , كنت أرى كل شيء بلون الدم ، يأتي
الشيطان إلى مملكتي ليسألني ، لماذا أنت من عليها أن تدفع ثمن عجرفتهم..كان
الشيطان منهم أرحم..كنت أجلس وأنا التحف جلباب خوفي حتى قطع مجيء العريس وبعضًا من أخوته صوت الحضور ، أسمع
همسات الآخرين وذلك السؤال القاتل لكل كبرياء أنثى في ليلة عمرها ، ذلك السؤال
الذي يختبئ في عيون المعازيم ، ما أبشع أن ترى السؤال ولا تسمعه ، كانت حيرتهم
تكاد تمزق من شدتها أفواههم ، تاركين لي حرية الإجابة !
· ...جلست فوق ذلك السرير إلى حين عودته..أسمع الآن صوت هشيم الذاكرة
، كل شيء يتحطم ولا يسمعني أحد ، الكل في فلكهم يلعبون وأنا في هذه الغرفة أنتظر
جيوش المجهول ، تأتي وتأسرني..أنا الآن لقمة سائغة للموت ، لا أعلم كيف أعمل ! أغلق
علي باب سجنه وتركني أعيد ترتيب مخاوفي ، إنني أنهار الآن والخوف ينهش بأنيابه
جسدي ، لقد أكل الخوف فيني كل شيء ولم يتبق له ما يسد به رمقه غير بقايا دموعٍ
تجمدت ، وأظافر ادخرتها للزينة.
· كانت ساعتي لا تمل وهي
تصرخ ، بأن الليل يطوي حضوره ويلملم بقاياه للرحيل..أيقنت بعدها بأن للأمل بقية وأنني
بعد لم أفقد براءتي ولم أخلع ثياب الطفولة من جسدي..استوحشت من رسل الخيال وصرت
أطارد أوراق ذاكرتي ، أبحث في خوفي عن قصص ربما سمعتها من قبل ذلك ، عن هذا العراك
المقدس ، لكنني فشلت..حتى ذاكرتي تخلفت عن اللحاق بي.
· أطفئت النور وأطفئت
معه كل شيء في حياتي بعدها ، من يطفئ النور يا فارس في أجمل أيام حياته ، ثق بأنه
سوف يعيش بقية أيامه في ظلام دامس..تحررت روحي وانفصلت عن جسدي في تلك الليلة ، لقد
خلعت روحي ثوب جسدها وجلسنا نتطلع إلى جسدي وهو يخوض معركة البقاء ، كان كفريسة
وقعت بين مخالب الموت ، اختلطت الأصوات بين صوته وصوتي ، أسمع صوت تكسير أحلامي ويسمع
هو صوت جوعه ، حتى تلطخ الوقت بدماء عفتي ثم أغمضت عيناي عن مشاهدة اغتصاب طفولتي ،
تركني بعدها ألملم بقايا الشوق المسكوب على أطراف السرير ، وأستجدي أحلامًا من
الرغبة بقية الليل.
· فارس..الوقت معك ينقضي
بسرعة ، وجودك في حياتي أصبح ضروري مثل الماء أنت عندما أشرب حضورك لا أرتوي..أنت
الحقيقة التي أستطيع تلمسها والإيمان بوجودها كمعجزة جاءت من السماء لتخرجني من
الظلمة إلى النور..أعلم أنك تتكلم عني بداخلك وأنا أجلس كالبكماء ، حتى نظراتك
تعاتبني وأنا أتحاشاها كالعمياء..تعلمت منك قراءة الصمت وأصبحت أتقن فن المشي على الأنفاس..أبحث
عنك في منزلي فأجدك جالسًا فوق أريكتي بجوار مدفئتي ، وكتابي بين يديك يغازل وحدتي
، حتى يداي تتحسس حضورك نائمًا في مخدعي ، أفز من هذا الكابوس فأجد الشيطان يرقب
نشوتي ، جالسًا على حافة شبك غرفتي يتطلع في الفضاء ثم يلتفت ويبتسم لي ، أتذكر
ذلك الحلم جيدًا..كان في البدء صياد يحمل صنارته فوق كتفه ويلبس قبعته وفي يده
الأخرى سلة فارغة ، طرق على شباك غرفتي وعندما فتحت له جلس ورمي بصنارته في الهواء
، ثم طلب مني أن أكمل نومي وجلس في انتظار الوقت.
·
طفولتنا هي من تحدد هويتنا
وهي من ترسم لنا طريق الغد..ما حدث لنا في الصغر هو مؤشر لما سوف نكون عليه في
الكبر ، من يحمل أحزان الماضي وجراحاته لابد وأن تظل معه طوال العمر ، جروح الماضي
يا عزيزي لا تبرأ ، تتوقف ربما بضع فترات عن النزيف ، لكن سرعان ما يعاود الجرح
تأوه من جديد ، القلة هم من يتحررون من الماضي وصوره ويبدؤون حياتهم ، من يقوى على
طي صفحات الماضي ويلقي بها من نافذة الحاضر ، هو فقط من ينتصر للمستقبل ، دائمًا
ما تطاردني طفولتي وتسرق مني أجمل أوقاتي ، المعارك التي تدور بيني وبين طفولتي لا
أنتصر عليها إلا في أحلامي.
وقفااات:
· بعد تلك الليلة التي
مضت،رسم الفرح في سماء فارس ألوان من قوس قزح..طوت وفاء بكلماتها المسافات،ولم
يتبقى غير يد تمتد لتلامس يدها،وعناق ينتظر عند حافة شوق قديم في ليلة دافئة،أصبح
فارس يعيش السؤال مع نفسه،وكأنه ينتظر منها الإجابة..يطرق حضورها في كل مرة أبواب
عزلته،فيخشع الصمت لتراتيل صوتها،تيقن فارس أنه لا يزال سجين حواسها وأنه يعيش
لحظات التجلي،أصبح صمت الحاضرين في رأسه ضجيج..لكنها هي من فتحت نوافذ غربتها له وتركت
له النوافذ مشرعة حتى سكنت أشواقه مخدعها،لا يتوقف التفكير فيها لحظة،لا بين
اليقظة أو المنام،ولا بين الحقيقة أو الخيال،لكن جل خوفه أن يستيقظ الحلم مذعورًا
من كوابيس الواقع.
· ما الذي تبحث عنه وفاء
، بين أكوام من السنوات المتراكمة خلف أبواب أغلق الزمن معظمها،وبقت بعض النوافذ
للتهوية..لكن رغبات فارس شيء مختلف ، شيء بعيد عن الإدراك ، مرة تستطيع أن تقول
رغبات شيطانية ، ومرة ترغب في أن تقول رغبات أكثر إنسانية..لم يتضح لوفاء بعد إلى
أين يريد فارس أن يذهب وإلى أين سوف يتوقف..مرة تجده ذلك الطبيب الذي يداوي تلك
العلل التي تراكمت على قلب مثخن بالجراح ، أو هو ذلك الروحاني الذي يسرح بروحها
نحو الأمل ذاهبًا بها إلى عالم من الجمال ، ترى فيه حقيقة صورتها وبأنها امرأة مثل
باقي النساء ، تحمل الجمال والروح ، ويحملها ذلك الجسد المغري للغوص في بحوره لكل
غواص ماهر أعتاد على الغوص في أكبر المحيطات وأخطرها ، ومرة هو ذلك الرجل القديم الذي
أعتاد على أن يحمل بندقيته استعدادًا لاقتناص فريسة تاهت بين غابات الزمن الضائع ما
بين الخديعة والحقيقة ، أو هو ذلك الرجل الشرقي الغارق في شرقيته حتى الثمالة ، وكأنه
يقضي جل وقته وبرفقته الشيطان في دراسة تضاريس جسدها المفعم بالجمال.
· كان فارس بعد كل لقاء،يضع يده على مكامن الألم فيها ، محاولًا إزالة ذلك الورم القابع في ذاكرتها ، ثم يتركها بعد ذلك تحيك جراحها بيديها ، التغيير الذي طرا على وفاء كان بطيئًا ، لكنه كان واضحًا ، يتلمس فارس ذلك التحول في حياة وفاء عندما أخرجت مساحيق التجميل من خزانة الماضي ..أصبحت تدقق في اختيار زينتها خلافًا عما رآها في أول لقاء ، حيث كانت أشبه بامرأة على هامش الاهتمام .
حديث وفاء
عن والدتها :
·
كنت أتطلع إليها وكلي
رغبة لو تحول هذا المجلس إلى محكمة دولية ، أسمع الآن صوت ذلك المسكين ، يصرخ قبل
دخول القاضي وهو يقول: محكمة..وعندما يأتي دوري للحديث أتزحزح من مكاني ، أبحث عن
العدل في وجوه الآخرين ، سوف أقول للقاضي الذي يتصدر مجلسه أمامي وهو ممسكا
بمطرقته الخشبية التي تطرق في ذاكرتي كلما ضرب بها قبل أن تطرق على طاولته : يا
سيادة القاضي إن التي تجلس أمامكم في قفص الاتهام ، هي العنود والدتي ، نعم والدتي
بموجب الأوراق الرسمية وبشهادة بعض الجيران ، والدتي بحكم العادة وبقضاء الحظ وبمحض
الصدفة ، والدتي بقرار من نزوات والدي ، لم أختارها لتكون والدتي ولم تختارني
لأكون ابنتها ، فانا ضحية أقدارها وهي ضحية رغبتها ، أيها القاضي المبجل ، عندما
صحوت من سبات عميق قيل لي بأنها والدتي! لكن أبداً لم أجد أمي من هذا كله..تلك
المرأة هي من شوهت روحي قبل حياتي حتى أصبحت أنكر نفسي وأكرهها ، هي من أغوت
الشيطان حتى تعاون معها لهدمي وتحطيمي ، وشيدت هيكل غطرستها فوق ضريحي...وقبل أن
يصدر القاضي حكمه سوف أخرج له دليل براءتها من ذلك كله ، وأن المتهم الحقيقي هي
أنا ، لا أستطيع أن أراها مكبلة اليدين مطأطئة الرأس..نعم أنا القاتلة وأنا
المقتولة ، أنا حقًا من تعاونت معها وبرفقتنا الشيطان حتى نكتم أنفاسي ونطرد
الأرواح المتمردة التي سكنت جسد تلك الطفلة التي تختبئ فيني ، يا سيادة القاضي: عدلك
أنزله علي ودع الباقي تكمله الأيام وأطلق سراح والدتي لتبحث لي عن أمي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتطفات من روايتي
الثانية غرابيل نسوة
قصة المرأة..والتاريخ
نورهـ على مفترق الطرق
عنوانين
(1) الحي العتيق
(2) المرأة بين التعليم..والتحريم
(3) التحدي
(4) المرأة والتعليم - البداية والطموح
-
(5) سبب..مأساتي
(6) نساء خلف أبواب..الذاكرة
(7) سقوط ..عفن
(8) حواء من الخلقة..إلى الخطيئة
(9) أسرار..مدفونة
(10) المرأة..معاناة من المهد
(11) طرق...خافت
( 12) المرأة- ضحية اعتقاد واجتهاد..أم
ضحية جهل وعناد-
(13) لقاء - ممتلئ بالسعادة..ممتلئ
بالخوف -
(14) المرأة..بين السماء والأرض
(15) المرأة..الآلهة
(16) المرأة بين سيطرة الفقهاء - وغطرسة
الأدباء -
(17) المرأة- وصراع الحضارات-
(18) المرأة - والأحاديث النبوية -
(19) القديسة..امرأة
(20) المرأة - بين الحَيْطَة و
الريبة -
(21) المرأة..الفيلسوفة
(22)
المرأة - بين القضاء..والإقصاء-
(23) نساء سلبت اختراعاتهن ونسبت
زوراً للرجال !
(24) لقاء لا ينقصه - الفرح..الحب..الأماني
-
(25) المرأة - عندما تكون..الحاكم -
(26) الورقة..الأخيرة - أحلام حملتها أماني ميتة -
ـــــــــــــــــــــ
·
أنا نوره..امرأة
تجلس على عتبات الزمن الراحل عنها منذ سنوات العمر،التائه بين بيت تسكنه بحي شعبي في
غبيرة،ذلك الحي المختبئ وسط ركام الماضي،الحي الذي كان قبل سنوات طويلة من الأحياء
البارزة في مدينة الرياض،لكنه الآن صار من أحياء التاريخ،حي
ولد من رحم متحف عتيق،وبين زوج قاده سوء حظه وقبيح فعله إلي السجن.
·
كانت تمر علي
الأيام والليالي وأنا في انتظار الخير الذي يأتي به القدر،ففي بعض الأوقات كان هناك
من يأتي ويضع عند عتبة بابي بعضاً من الطعام وقليل من ملابس بالية،وكثيراً من
الأوقات أقف أياماً خلف الباب،وانأ أستجمع جميع حواسي،لعل أحد من أرباب الخير يأتي
مرة أخرى ويضع ما تجود به نفسه،لكني أعود لفراشي خالية الوفاض .. لا يمل مني الانتظار
ولا أيأس من بريق الفجر،كل يوم كان يئن فيه صوت الجوع،كنت أحمل فوق مخاوفي وعثاء
الفقر،وأجلس خلف باب بيتي أسترق سمع المارة،لعل أحد وهو يتجاوز داري يستمع لبكاء أطفالي .
·
لا يعلم أحد
كيف مضت السنوات العشر وأنا أحمل الخوف والألم معاً،وهم أطفالاً صغار يقتاتون على
رائحة الطعام،تقطع صبري حتى صار مثل ثيابي البالية..ومع هذا تعلمت من الخوف
الانتظار ومن الألم الصبر ومن الحياة الغدر،خرجت من تلك التجربة أشد قوة وأكثر إيماناً،وعدت
أفتح نوافذي مرة أخرى للأمل.
·
جلست وبناتي ننتظر
طرقات الفرح تطرق باب وحدتنا،والدموع تختلط بين الحزن والفرح،وبين المغفرة والعتاب،ما
هي إلا مسافة من الوقت حتى وصل زوجي يحمل أثم خطيئته،وفوق حواجبه خطوط من غضب
السنين،يرجو من الله المغفرة،ومني الصفح والنسيان،اخذ بتقبيل راسي ويدي،عرفان لي
بالجميل،لم يدوم عتابي عليه طويلاً،فسرعان ما أخذت أمسح قطرات من العتب المتساقط
من عيوني التي كادت تجف لولا أن ضحكت لها الأيام أخيراً .
·
أحلامي من ذوات
الأعمار القصيرة..تولد في غياب الوقت وبعد رحيل الصدف وسرعان ما تلفظ أنفاسها وهي
بعد في مراحل التكوين،نادراً ما حملت حلماً بين يدي أو رأيته يكبر أمام عيني،كل
الأحلام التي خرجت من رحم القهر ومن بيت الفقر هذا،تخرج قبل أن يكتمل نموها،حتى
ذلك الحظ الذي طالما سمعت الناس تتحدث عنه كان يأتي إلينا وهو يحتضر من تعب
المسافات،وقبل أن يطرق الباب كان الموت ينتزع منه أظافره الجميلة،تعودت على دفن
رفات الحظوظ التعيسة خلف فناء ذاكرتي القديمة .
·
دائماً ما كنت
أمني نفسي وأصنع من قناديل الانتظار عناقيد من الأمل المتدلي من البعيد،وعند
الغروب أجلس والخوف يرقب أنفاسي وهو بجواري،حتى سلمت للأقدار رايات معاركي وأطلقت
أشرعة مراكبي لرياح رغباته،لن أقول بعد اليوم،ليت،ولو،فقد حذفتها الأيام من قواميس
كلماتي..
·
وعندما أنهيت
قراءتي لتلك المعارك التي خاضها الرجل ضد تعليم المرأة،خرجت بعدة أسباب التي أدت
لمنعهم من تعليمها،كان أهم تلك الأسباب الخوف ولأشي غيره،الخوف من أن تعرف المرأة
حقوقها وأن تستطيع الدفاع عنها بالحجة
والبرهان،الخوف من أن تخرج المرأة من سيطرة الرجل أيما كان ذلك الرجل،سواء كان ذلك
الرجل الأب أو الأخ أو الزوج.
·
الخوف من أن
تصبح المرأة ذات استقلالية وذات شخصية قوية،وتكمن قوتها في تعليمها وتمسكها
بإيمانها بدينها وبنفسها،المرأة المتعلمة هي التي تستطيع أن تتخذ قراراتها بنفسها،وتستطيع
أن تتحمل مسؤولية مصيرها،بخلاف تلك المرأة الجاهلة التي لم تستطيع أن تمتلك من العلم
سلاحاً تدافع به عن نفسها،فهي تظل تقبع تحت رحمة ذلك الرجل وتتلقى الأوامر منه حتى
في أبسط الأشياء التي تخصها،بحجة أن الآخر هو الأعلم منها والأقدر على تحمل أعباء
المسؤولية.
·
أيتها الأخوات..إذا
كانت حرية العبد يكمن في عتقه،فإن حرية المرأة من الجهل والتسلط تكمن في تعليمها،وأما
تحذيرهم من أن تعليم المرأة سوف يودي إلى فسادها وانحرافها عن الطريق المستقيم،فهذا
والله مما يثير الحزن ويدعو للشفقة إلى ما وصلت إليه حال المرأة،أبان تسلط هؤلاء عليها
وعلى تقرير مصيرها،إذ لو عرفنا أن الانحراف والفساد الذي يتحدثون عنه ليس مرتبط
بتعليم المرأة،فهناك من النساء قديماً لم يتعلمن ولا يعرفن أن يكتبن حرفاً واحداً،ومع
ذلك اشتهرن في التاريخ بمعانقة الفساد ومعاشرة الانحلال،بل الصحيح أن تعليم المرأة
هو الطريق الصحيح لحماية المرأة من الفساد والانحلال ومن وسواس شياطين الأنس والجن.
المحزن أكثر..أن أولئك القائلين بتحريم تعليم المرأة،لم يهنأ لهم بال حتى استجلبوا
من الأحاديث النبوية الموضوعة أو المكذوبة في تحريم تعليم المرأة..
·
ظل والدي يحمل
علي وزر ذلك الحب الذي ولد في غفلة منه،وظل يحمل هو طيات الهزيمة بين عينيه كلما
راني أكبر مع الأيام،كان حبي لزوجي بالنسبة لأبي معركة لابد وأن يخرج منها منتصراً
حاملاً سيفه ودماء محبتي يقطر ألماً،لكنني أبصرت مراده فتحملت جميع تلك المصائب في
سبيل أن لا أعطيه فرصة التشفي بي عند قبائل غروره،حتى عندما مرت بي تلك المحنة والتي
كان زوجي حمود سببها،كنت أتضور جوعاُ ويظمأ الخوف فيني ولا يرتوي حزني،ومع ذلك كله
لم يخضع لهم قولي ولم يستجدي لهم ضعفي،بل كان الكل يتفرج علي ويراهن والدي مع أخوتي
بأنني سوف أخطو الخطوة الأخيرة،ونأتي إليه أنا وبناتي نتوسل جبروته،فيدق بذلك أخر
مسماراً في نعش حياتي الزوجية..
·
تعودت على الصمت
الذي يحررني من ضجيج الحياة،الصمت عن كل شيء أراه غير مناسباً لي،حتى بيتي طمست
جدرانه بألوان الصمت القاتم،ومع مرور الوقت صارت تلك ألوان مشاعري،أصبحت لا أهتم
كثيراُ بنفسي وتركت ملابس الزينة تنوح فراقاً في دهاليز خزانتي،تعايشت مع واقعي
وتعلمت بأن الحقيقة تكمن في فنجان قهوتي،وكما أن حلاوة الأشياء لها وقت وتنتهي،كذلك
لحظات السعادة تلك التي ضحيت في سبيلها زهو أحلامي وزينتها،سوف يأتي عليها الدهر
وتنطفئ شعلتها،كم كنت أتشدق بيني وبين نفسي وأقول بأن الإنسان هو الكائن الذي يقدر
على صناعة واقعه بنفسه،وأنه الوحيد الذي بإمكانه أن ينسج أحلامه حتى تصبح أشرعة
لمراكبه وتبحر به نحو البحور السبعة.
·
لكنني لا زلت
أتقصد الهروب من ذلك السؤال الكبير،هل يتبخر الحب مثل ماء فوق صفيح ساخن؟ أسمع
الآن جواب لست أدرك من أين يأتي،وهل كان في الأصل هناك حب حتى يتبخر أو ينضج..ربما
كان الذي بيني وبين حمود هو حب بالفعل،لكن قسوة الحياة استطاعت أن تغير الاتجاهات،وربما
هو العناد الذي نشب بيني وبين والدي حتى ظفرت بانتصاري..لست أدري لكنني حقاً تائهة.,,عندما
تزوجني حمود وذلك بعد إصرار مني وقتال،لم أكن بعد أفهم معنى للحب،كان الحب بالنسبة
لي أغنية اسمع صداها يتردد بداخلي في كل صباح،كنت بعد لا أزال في طيش شبابي،وسفاهة
أحلامي تتملكني،كان كل همي آنذاك الهروب من مملكة والدي ومن سلطة الرجل في حياتي،لكن
الآن وبعد مرور تلك السنوات وجدت أنني عدت من حيث بدأت.
·
أعددت فنجان
قهوتي وجلست استرجع وجع ذاكرتي جراء ليلة مضت علي،كنت أستجدي فيها حقوقي التي
سلبها مني هذا الرجل،ولكن بطريقة لا تخدش كرامتي،وعندما حان الوقت خرجت وأنا لازلت
احمل بوادر الغضب،من ليلة تاهت في محاولات فاشلة في أغراء ذلك الظل الذي أصبح
يشتاق للنوم أكثر من اشتياقه لجسدي..حتى عواطفي التي كانت تتحين فرصة للطيران،أضحت
مثل طائرة ورقية بيد معتوه لا يعرف أوقات الريح. ..لقد أصبحت معاركنا العاطفية لا
تنهض إلا احتفالاً بنهاية موسم،أو بداية عام جديد..كنت أطبطب على صبري حتى اعتادت
رغباتي على عويل الليل الذي لا يصمت فيني،ففي الليل تزداد أحزاني وتشتعل شموع من الرغبات
التي يطفئ سراج وهجها حضن دافئ،أو يد تمتد نحوي..أنا مثل بقية النساء،ولدت من رحم
الرغبة،ولو لا هذا الحياء لمزقت ستائر صمتي وقلت له هيت لك.
·
أصبح يأتي
للبيت ورائحة الخيانة تفوح من فمه،كل شيء فيه كان يخبرني عن تفاصيل الخطيئة،حتى
تلك الروائح التي رسمت تضاريس السهر لا تزال تسكن جسده،وملابسه التي غسلتها يدي لطختها
قبلاتها الساخنة،كان صمتي في تلك اللحظات أقوى من نيران غيرتي،كتمت ذلك الغيظ الذي
بدا لي وكأنه البركان الذي سوف يحرق كل شيء حتى مدينتي البائسة،لو أنني سمحت لهذا
البركان يكمل ثورته.. هناك جلس خوفي فوق أريكة صبري،وتمنيت لو أستطيع أن أقول له كل
ما في داخلي،لكنني تجاهلت كل ذلك ورميت بكل الأدلة والبراهين التي ولدت من رحم الحقيقة،كنت
أعلم بأنه سوف يكذب وبأنه سوف يأتي بتلك الأعذار الواهية مثل لبان يقلبها بإطراف
لسانه،لكنني تذكرت قول أبي تمام:ليس الغبي بسيد في قومه..لكن سيد قومه المتغابي.. تغابيت
بمحض أرادتي،وبكامل قواي الجسدية صمدت طويلاً،حتى لا أسقط ويسقط معي بيت الوهن هذا،تركته
يعيد ترتيب أوهامه ويمسح آثار ليلته الماجنة تلك،وعدت لوحدتي وفنجان الحزن يشربني.
·
عندما رست
مراكب الشك على موانئ يقيني،وتأكدت كل مخاوفي،تربصت بي الحكمة في كل الطرق حتى
وجدتني،سوف أعيش من أجل بناتي،وادخر بقية زهرات عمري من أجلهن..حتى الجنس ذلك
الكائن المشوه فيني،والذي يعيش بداخلي ويتضخم كلما كبرت أكثر،لكنه في لحظات يتوقف
عند أول الطريق،وكأنه يلتقط بعض أنفاسه،أراه مثل شعلة تتقاتل مع الريح،وأنا مثل
الكثير من النساء تجتاحين تلك الرغبات التي يجوع فيها الجسد ويظمئ،لكن عندما أتذكر
أنني أعيش مع رجل اعتاد المبيت في كل مكان،ومع أي من كان،ينتابني الشعور بالشبع،والاكتفاء
بالحسرة على ما مضى... صحيح أن الجنس يهب السعادة للبعض،لكنه لا يهب لي الآن غير
الحزن،وحالات من الغثيان التي تتقيؤها ذاكرتي كلما بدأت أضعف أو بدأ الحنين يعاود
زياراته الليلة،حتى عندما أضطر له اغتصابا! أجدني في تلك اللحظات مجرد جسد تعرى من
كل شيء،حتى من الروح التي كانت تسكنه،فلا أعلم متى بدأ ولا متى ينتهي إلا عندما
يدركني الصباح،ويمضي وقتي بعد ذلك في لملمة أجزائي المبعثرة في كل مكان .
·
كنت أمشي بين
أزقة المكتبة وبين أروقة الكتب،أفتش عن كتاب يشبهني،فأخذت أتجول هنا وهناك وبين
تلك الأرفف الكبيرة،كانت رائحة الورق تحفز شهيتي أكثر للقراءة،وبعد سويعات قليلة
من البحث،توقفت عند ذلك الرف العتيق،كان يقف بجواره رجل يحمل معه كتاب،شدني أكثر
عنوانه قبل أن يجذبني صاحبه نحوه بحديثه،وعندما تنبه إلى تطفلي نحوه،ورأى شغفي
الذي يكاد يقتلع عيني وأنا أتلصص عليه،حتى أتبين أسم الكتاب الذي يحمله معه،توجه
أكثر نحوي وقدمه لي
·
عندما يأتي
المساء تشتاق القلوب للحنين،وينتظر الصمت صوتاً يداعب مشاعري،حتى أنني أصبحت أسيرة
لذلك الشوق الذي اعتاد طرق بابي كل مساء،وصار العشق ينام بين جفوني كل ليلة وتصحو
أحاسيسي مع ذلك الصوت الذي يداهم أحلامي... أغلقت دفاتر أشواقي وتركت الحنين
وبواعثه،عندما أدركت أنني سوف أبات الليلة وحيدة مثل شجرة تتمايل أغصانها مع
الريح،وحتى ولو بقى حمود ولم يسافر للدمام لتوصيل أحد الركاب المهمين كما يزعم،مع
أنني واثقة كل الثقة بأنه لم يغادر الرياض،وأنه قابع في أحد الأماكن الرخيصة،رخص
حياتي معه،فلن يغير في الآمر شيئا،لا أفقد إلا صوته النشاز وألفاظه المتدنية،لذا
تركت كل وساوس العشق بجواري،ورحلت للنوم تاركة كل أحزاني فوق مخدتي.
·
الحب..ذلك
الصوت الذي يغرد كطائر الشوق وحيداً بداخلي،ها هو اليوم يأخذني إلى حدائقه الحمراء
وبساتينه التي تغويني كلما اختليت مع نفسي،حتى أحلامي تلك التي كادت تعلن انسحابها
من عالمي،هي الأخرى تساند هذا الحب الذي يولد فيني..جلستُ طويلاً في انتظار أن
يتجسد هذا الحب،فيكون جسداً يبادلني الحب مثلما سوف أبادله،ونشرب نخب ذكرياتنا كل
عام،يحتفل هو بعيد ميلادي،وأحتفل أنا بوجودي معه،نعيش لحظات خارج الزمن،ويعيش فيني
كل سنوات عمري،أمزق أجندة الوقت في انتظار مجيئه حاملاً معه وردة واحدة تروي نهم
غروري..أنا مثل كل النساء..أحمل العالم الآخر فيني،وأعيش الوهم الذي اعتاد المبيت
عندي،حتى عندما حان وقتي وبدأت الأقدار تنظر لي،كان الحظ يعزف فوق رأسي الحان
سخريته،أبعد هذا العمر يأتي القدر حاملاً معه فارس أحلامي! أبعد هذا العمر تكسر
عواصف الصبر نوافذ غربتي ليعود الطير يغرد في مدينتي،فمن غيره يهز أكتاف ذاكرتي،ويشعل
مصابيح الأمل فيني..هو فقط القادر على أن
يضيء كل قناديل أفراحي.
·
كان خروجي مثل
أمنية تداعب في تلك اللحظات أحلامها،أمنيتي كانت أن أذهب ولا أعود،أن يصادفني في
الطريق رسول الموت ونذهب سوية،كنت أعلن في تلك السويعات،كراهتي للحياة،تلك الحياة
التي كانت تغريني للرحيل عنها أكثر من التواصل معها،كنت أراقب ذلك الشك الذي يكبر
فيني كل يوم،بأن الحياة كانت في البدء نشوة،ثم أصبحت وهم... أين أمسي؟ وأين عمري
الذي ضاع ما بين الشك واليقين وما بين الحقيقة والوهم..خرجت وأنا أحمل أطنان من
الهم فوق عمري،ويكاد الحزن يلتهمني،يسألني صمتي حتى متى وأنا في انتظار طيور الحظ
التي تاهت حتى عن خطوط يدي،شربت ما يكفي من مرارة الوقت ولم يرتوي مني بعد وقتي،كأنني
والزمن بيننا ثارات لا تنتهي..تذكرت وأنا في الطريق،تلك المرأة التي كانت تتأمل
فنجان قهوتي ذات يوم..كلماتها الآن وكأنها أجراس تطرق صومعتي،ورائحة القهوة لا
تزال تداعب ذاكرتي،جلست تتأمل فيني وتقلب فنجاني،بعدها أخذت تتطلع فيني وكأنها كانت
تنتظر مني أن أتعارك معها،لكنني كنت أتودد للحظ أن يعيد كتابة أقداري ولو في فنجان
مقلوب،لم تمضي الدقائق إلا وهي تعيد الفنجان إلى وضعه الطبيعي،لكن بعد أن رسمت قهوتي
بقاياها على فنجاني،خطوط أشبه بلوحة رسام مصاب بالجنون،ثم قالت وهي تقاتل لبان كان
يلفظ أنفاسه الأخيرة في فمها...
·
لا ادري لماذا
في كل يوم أجدني أشد انجذاباً إليه،وعندما أختلي بنفسي تأتي كلماته وكأنها تغازل
وحدتي،حتى غدا الصمت يعتاد رفقتي،هل أنا أغرق الآن في بحوره التي لا شواطئ لها..وهل
علي أن أصارحه بخلجات قلبي؟ هل..وهل..كم من هذه الأسئلة التي تداهم غرفتي الآن،وأنا
التي كنت أحسب بأنني قد ودعت الحب وأهازيجه..لم يتبقى لي الآن غير هذا السؤال الذي
يشغل وحدتي،كلما لاح لي ضوءه..لو كان يحب امرأة أخرى ما العمل..أو لو كان متزوجاً
مثلي أين المفر؟ ربما تكون لديه زوجه..وما الضير في ذلك،فأنا لدي أيضاً ذلك الرجل
الذي يقول عن نفسه بأنه زوجي،ولكنه زواج قد توقف منذ سنوات..هل قلت توقف؟ بل مات
ذلك الزواج،وحضرت عزاه بنفسي،حتى تسلبت حياتي بعد ذلك بالسواد.. لم يبقى لي إلا أن
أعلن له عن ضعفي معه،وعن حبي الخافت له..هل أحكي له عن قصة تلك الفتاة،التي أخذت
من أحلامها ثياب زفافها وذهبت تجر خطواتها نحو الفرح..تاركة خلفها آب متجهم،وأم لا
تعرف أين تقف،وكيف ضربت تلك الفتاة بعرض الحائط كل قوانين العائلة،ورفضت كل توسلات
العشيرة،صرخت بأنها لن تتزوج إلا ذلك الرجل الذي تعرفت عليه بمحض الصدفة،ورأته في
منامها،وعندما تبدلت الأيام،وكشرت الحياة عن أنيابها،خرج ذلك الرجل من رحم الخيال
إلى واقع الحال،وتكسر ذلك القناع المزيف الذي كان يلبسه،كان وجهه الحقيقي أبشع من القبح
نفسه،لقد تحول ذلك الإنسان إلى شيطان بلمح الظروف،أصبح هذا الرجل المتحول بلا لون
ولا طعم،فقط تلك الرائحة العفنة،التي ترافقه عندما يأتي للبيت في منتصف الليل،حاملاً
معه جسده المترنح جراء عبث السهر الحرام،حتى اختلطت مشاعري وأنا في انتظار أن
يتغير ويعود لسابق رشده،لم أعد أميز بين الحزن والفرح،وبين البكاء والضحك،صارت
أيامي كلها أشبه بيوم طويل،الوقت فيها مجهول،والأمل منها معدوم،حتى اعتادت هواجسي
على المبيت في مرقدي..هل أقول له بأن تلك الفتاة كبرت وتغيرت مشاعرها، وأصبحت تفرق
بين الغث والسمين،وبين العجين والطحين..عندما التقت برجل تكاد قوانين الطبيعة تصرخ
بأنه يعرفها أكثر من نفسها،ويعرف خباياها وتفاصيل مشاعرها،وبأنه يستطيع أن يبني
مدائن الفرح في عالمها الصغير،هل علي أن أقول له بأنني هذه الفتاة التي كبرت،وتخطت
سنوات الظلام..وهل علي أن أشير عليه بأصابعي وأقول له:أنت هو ذاك الذي أخترق في
غياهب الخوف صمتي،وبدأ في تشكيل كلماتي حتى أستطاع أن يغير كل شيء فيني.
·
هذا المساء كان
ينادي الفرح..ويتزين بألوان السرور،ففي هذا المساء سوف التقي بطارق،وسوف أحكي له
عن عالم العشاق،وعن مصارع الشوق فيني،وسوف أكتب له صمتي رسائل،عله يقرأها بعيونه،فكتبت
له:أنت من كان ينقصني..وأنت من كنت أبحث عنه طوال حياتي،يصرخ كل صوت فيني،لن أدعك
ترحل عني في يوم من الأيام..ولن أسمح للحياة أن تسرقك مني،كما سرقت أحلامي،فأنت
الحلم الذي كبر فيني حتى أصبح رجل يكاد يشبهني..بل أنت مجموعة أحلامي كلها،حتى ولو
حاكت علي الظروف خيوطها،وأغلقت الأقدار عني جميع أبوابها ونوافذها،سوف أهرب كقطة
صغيرة وأتي إليك،سوف أبيع كل شيء في سبيل الوصول إليك،حتى مخاوفي وترددي،وأشتري
تلك اللحظات القصيرة معك،لن أتجمل ولن أتحمل بعد اليوم مصاعب أيامي،فأنت غدوت لي
السماء وأنا الأرض،وأنت الماء وأنا العشب،فلا تبخل علي بساعات أقضيها معك،فتلك
الساعات هي أنفاسي.. أحببتك ليس بأكثر مما ينبغي..بل أحببتك بكل ما ينبغي،فتعال كقصيدة
شاعر تاه منه ذلك البيت الذي يسكنني..أتذكر يوم أن أهديتني تلك الراوية؟والتي توقفت
عند عنوانها كثيراً- أحببتك أكثر مما ينبغي- فقلت لك كيف يحب بطل الرواية حبيبته،أكثر مما
ينبغي؟! لم ترد لي جواباً،وتركت سؤالي معلقاً..ربما لم تعرف حينها مقصدي،لقد كنت
أحاكي في سؤالي نفسي،لأن الحب إذا صدر كان لزاما أن نحب بكل ما ينبغي لهذا الحب أن
يكون.. الحب قدر لا يعرف التخيير ولا التأخير..الحب هو ذلك الكائن الوحيد الذي لا
يعرف التلوين،الحب لون واحد لا يتغير ولا يتبدل مع مرور السنين..ليس عبثاً حين
أختار العشاق اللون الأحمر لوناً للحب،لأنه أيضاً لون الموت،أليس الدم لونه أحمر؟ وليست
صدفة أن يكون هذا اللون لون الخطر،ولون التوقف،بل وهو لون الثورة البلشفية،فالحب
ثورة على كل شيء.
·
استيقظت من
نومي وصوت لا يزال يطاردني،صوت يشبه صوت طارق،لكن صوت طارق أجمل،صوت طارق لا يتكرر
ومن المحال أن يقلده أحد،فبعد لقاءي معه بالأمس،أحسست بأن الحياة تهب لي مفاتيح
خزائنها،حتى صار الشوق يتأمل فيني سكينتي..وتغيرت نظرتي للناس،حتى بعدما عادت تلك
الكلمات التي هجرتني منذ سنوات طويلة،مثل الأمل والرجاء،وكذلك تلك السافرات من
الأحلام،لكن لم يتغير ذلك الخوف الذي يأتي مثل ضمير غائب يؤنب قاتل طفل صغير..هل
ينتصر الشوق على الخوف؟وينام الحب فوق سرير بارد..فتتجمد أحلامي ولا تتبخر مثل كل
صباح،كيف استطيع أن أبدل ملابسي ولا أتطلع على انهيار جسدي.! حتى الكلمات التي
أريد أن أقولها لا استطيع أن أخرجها للناس إلا وهي متنقبة لا يظهر منها إلا حروف مُتلعثمَة..أرى
نفسي بين مكانين لا يفصلني إلا برزخ من الشعارات والعادات،وقليل من العبادات،هل أنا
اسلك طريق الانحراف،وهل للانحراف بالأصل طريق؟ لو كان له طريق لأمكن الرجوع منه،ولكن
الطريق الذي أراه هو طريق ذهاب فقط،ولن أعود ولن يعود ذلك الخوف مرة أخرى،سوف أمزق
هويتي وأغير اسمي،وامسح الماضي بكلماتي،أنا..امرأة قد هجرها الود والورد والأغاني،وأصبحت
تستجدي الحب من أحلامها.
·
كانت كلماتي
بعد لم تزل تقاتل جيوش مخاوفي،وتنتظر متى تحين انتفاضتي وتثور براكين قوتي،لقد
أحسست بأنني هجرت الخوف الآن وهجرني ذلك السكون،فتركت بعضي يطارد بعضي وأنا ممسكة بأوراق
الصبر أمزقها قطعة قطعة،حتى بانت مشاعري مثل ألوان قوس قزح،تخرج مرة وتختفي
مرات،فهناك الخوف،والرجاء،والأمل المختبئ خلف أبواب الفرج،فيقف الانتظار وكأنه سيف
مسلط فوق رأسي،أنتظر الحظ ويبدو أنه ينتظرني في مكان بعيد عن ذاكرتي،أعتذر للأيام
أو اعتذر لنفسي أو ربما أقدم اعتذاري الأجدر لبناتي الصغيرات على كل ما سوف تجرني
إليه تبعات أشواقي..لا أدري لماذا خطواتي هي الأخرى تصاب بدأ الكساح كلما نويت الاقتراب
من تحقيق هواتف رغباتي،ترى..أين سوف تبحر بي مراكب أفكاري،ومتى يفتح الحظ لي أبواب
مدينته،ومتى أرى نواجذ الفرح تطرد شبح أحزاني،أشتاق إليه كل يوم،وفي كل يوم أتوسد
الحنين لحين تغشاني كلماته،حتى غدا صوته الحان تعزف على قيثارة أشواقي،حتى ضحكاته
هي الأخرى أبت إلا أن تكون شموعاً تضيء ليال أيامي.. في كل مرة التقي به كأنها
المرة الأولى،التي أسمع فيها ترنيمة صوته،وعندما يدنو الرحيل أجدني أشد خوفاً
وأكثر حزناً،يجلس الوقت على أطراف الانهيار في انتظار موعد جديد..كثيراً ما كنت
أقول:أن كل الأوقات تشبه بعضها البعض،الصباح مثل المساء،والليل مثل النهار،الأوقات
بالنسبة لي توأم لا أكاد أميز ألوانها ولا روائحها،الإحساس أصبح معدوماً،والانتظار
أن يأتي الوقت تلو الآخر مفقوداً،حتى التقيت بطارق،فأصبح الوقت معه له طعم لا يشبه
كل الأطعمة،وله رائحة أجمل من المطر.
·
هذا الصباح كان
حلم يعانق المساء،صباح يحفزني بلقاء جديد،إذن سوف تطفوا أحلامي مرة أخرى فوق بحر
حضوره،وسوف يعانق الشوق اليوم عبير وجوده،سوف أرمي بكل مخاوفي نحو المجهول،وليفعل
بي الوقت ما يشاء،لن أعود للخوف مرة أخرى،ولن تعود الحياة للوراء.
·
أخوف ما أخاف..الحواف!حافة
السقوط وحافة العمر،كلاهما يرعباني،فقبل السقوط يكون ذلك الانحدار السهل،الذي
يغريني بالاستمرار،حتى لا أجد في لحظة غير حافة واحدة تمسك بي،تلك الحافة التي
تفصل بين الحياة والموت،مثلها مثل الأعمار وانحدارها،تمضي أعمارنا أسرع مما نتخيل،خاصة
عندما نصل إلى منتصف الطريق أو قبيل منتصف العمر بقليل،يزداد الانحدار بنا أكثر
فأكثر حتى نجد أنفسنا وقد بلغنا المنتهى،ذلك المنتهى الذي لم يعد للأمل فيه متسع
من الوقت،ولا للأحلام رغبة في الأغراء،كل شيء يفقد مع مرور الأعمار،بريقه وتصبح كل
الأشياء قديمة قد عفى عليها الوقت.. أخاف أن تموت أحلامي ذات نهار!وأن يسقط الأمل
في وحل الواقع..فعندما أشاهد اللون الأبيض بدأ يفرض سيطرته على مكامن شعري،ينتابني
الهلع من أن موعد الرحيل قد أقترب،وأنا التي كنت أقول عن عمري عندما يسألني عنه الآخرون،العمر
مجرد رقم،لكنني لا أستطيع الآن أن أقول عن الشعر الأبيض بأنه مجرد لون.
·
هذا السؤال الذي
كنت أخشاه دوماً من الآخرين،وخاصة منك أنت يا طارق !من أنا..أنا هذه المرأة التي
كسرتها الظروف،أنا تلك المرأة الحمقاء التي وهبت حياتها لكائن لا يمت لها بصلة،ولا
تشبه ولا يشبهها،فقط من أجل أن تهرب من بيت والدها،باعت حياتها بثمن بخس،لم أفكر
حتى في هل يستحق ذلك الكائن الذي كنت أتواصل معه عن طريق الهاتف كل هذا العناء،وكل
تلك التضحيات.! كنت أحسبه حباً ذلك الشعور الذي يداهمني كل ليلة،لا يهدى ولا ينام
حتى أتصل عليه أو يتصل علي،لكنها كانت نزوات فتاة مراهقة تعلقت بصوت رجل،فقط لأنه كان
يسامر وحدتي ويداعب أنوثتي!هل تنتظر الإجابة في هل يستحق هذا الكائن كل تلك
التضحيات؟ بالطبع لا وألف لا،هذه الإجابة التي وصلت لي متأخرة ومتأخرة جداً،لكن لم
يعد يهم لا الإجابة ولا ذلك الكائن الذي يقول بأنه زوجي. من أنا..؟من أنا في
الماضي ومن أنا الآن،بينهما فرق كبير..بينهما حياة أخرى،أنا من تزعم بأنها عاشت
حياتها مرتين،مرة مع العدم،ومرة مع الحياة،الحياة أنت يا طارق والموت كل ما سبق
وأن عشته. من أنا..بعد أن أحببتك؟هي أنا الآن التي تجلس معك،وتتقاسم أنفاسك
معك،والتي ترى الحياة أجمل من قبل،أنت الروح والجسد،وأنت القلب،وأنت العقل،أنت
الذي استنسختك بداخلي حتى تلبسني طيفك،أنا أحق من جميع البشر بك،حتى من زوجتك
وأبنائك،فعذراً لطمعي فيك،ولو أنني خيرت في أن أملك شيئاً واحداً في هذه الحياة،لاخترت
أن أمتلكك وأضعك بداخلي للأبد،لم يعد الشوق يحتمل أن تكون مجرد حلم عابر،فذلك
يرعبني ويجعلني امرأة أشد انكساراً وأخف عقلا. والذي يرعبني أكثر من ذلك..أن يأتي
اليوم الذي تقول لي فيه وداعاً لن نلتقي مرة أخرى،فتأكد بأنك لو أسقيتني السم
الزعاف وتركتني أموت على مهل،أهون علي من ذلك كله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق